-->

حمل المصحف

حمل المصحف

الاثنين، 23 يناير 2017

4.من الآية181 لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء...الي الاية200 ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )

4.من الآية181 لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء...الي الاية200 ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون )
55  
الروابط لموقع اسلام ويب
( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ( 181 ) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( 182 ) الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ( 183 ) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ( 184 )
قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) [ البقرة : 245 ] قالت اليهود : يا محمد ، افتقر ربك . يسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) الآية . رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : دخل أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، بيت المدراس ، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له : أشيع . فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله - يا أبا بكر - ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير . ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطناه ولو كان غنيا ما أعطانا الربا ، فغضب أبو بكر ، رضي الله عنه ، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ، فاكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبصر ما صنع بي صاحبك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " ما حملك على ما صنعت ؟ " فقال : يا رسول الله ، إن عدو الله قد قال قولا عظيما ، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص وقال : ما قلت ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقالأبي بكر : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) الآية . رواه ابن أبي حاتم .
وقوله : ( سنكتب ما قالوا ) تهديد ووعيد ، ولهذا قرنه بقوله : ( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) أي : هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم لرسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء ، ولهذا قال : ( ونقول ذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ) أي : يقال لهم ذلك تقريعا وتحقيرا وتصغيرا.وقوله : ( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) يقول تعالى تكذيبا أيضا لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها . قاله ابن عباس والحسن وغيرهما . قال الله تعالى : ( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات ) أي : بالحجج والبراهين ( وبالذي قلتم ) أي : وبنار تأكل القرابين المتقبلة ( فلم قتلتموهم ) أي : فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم ( إن كنتم صادقين ) أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل .
ثم قال تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم : ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ) أي : لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك ، فلك أسوة من قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة ( والزبر ) وهي الكتب المتلقاة من السماء ، كالصحف المنزلة على المرسلين ( والكتاب المنير ) أي : البين الواضح الجلي .
56
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ( 185 ) لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( 186 ) )
يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله : ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخرا كما كان أولا .
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت ، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية - أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها ، كثيرها وقليلها ، كبيرها وصغيرها ، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ، ولهذا قال : ( وإنما توفون أجوركم يوم القيامة )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا علي بن أبي علي اللهبي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية ، جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ) كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ) إن [ ص: 178 ] في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفا من كل هالك ، ودركا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون من هذا ؟ هذا الخضر ، عليه السلام .
وقوله : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) أي : من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة ، فقد فاز كل الفوز .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة [ رضي الله عنه ] قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )
هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة ، وقد رواه بدون هذه الزيادة أبو حاتم ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن عمرو هذا . ورواه ابن مردويه [ أيضا ] من وجه آخر فقال :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، أنبأنا حميد بن مسعدة ، أنبأنا عمرو بن علي ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " . قال : ثم تلا هذه الآية : ( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )
وتقدم عند قوله تعالى : ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ما رواه الإمام أحمد ، عن وكيع عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .
وقوله : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) تصغيرا لشأن الدنيا ، وتحقيرا لأمرها ، وأنها [ ص: 179 ] دنيئة فانية قليلة زائلة ، كما قال تعالى : ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) [ الأعلى : 16 ، 17 ] [ وقال تعالى : ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ) [ الرعد : 26 ] وقال تعالى : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ] ) [ النحل : 96 ] . وقال تعالى : ( وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى ) [ القصص : 60 ] وفي الحديث : " والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم إصبعه في اليم ، فلينظر بم ترجع إليه ؟ " .
وقال قتادة في قوله : ( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) هي متاع ، هي متاع ، متروكة ، أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها ، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله .
وقوله : ( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) كقوله ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ) [ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ] ) [ البقرة : 155 ، 156 ] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن على قدر دينه ، إن كان في دينه صلابة زيد في البلاء ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : ( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور )
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم .
هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ، أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار ، عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قبل وقعة بدر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي - ابن سلول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عبدة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : " لا تغبروا علينا . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ،[ ص: 180 ] وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء ، إنه لا أحسن مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه . فقال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله ، فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك . فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عبادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا سعد ، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا " . فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح فوالله الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فعل به ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا [ وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ] ) وقال تعالى : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ) الآية [ البقرة : 109 ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن الله فيهم ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبي - ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه ، فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام وأسلموا .
فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل .
57.
( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ( 187 ) لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ( 188 ) ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ( 189 ) )
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب ، الذين أخذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا على أهبة من أمره ، فإذا أرسله الله تابعوه ، [ ص: 181 ] فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم .
وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " .
وقوله تعالى : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ] ) الآية ، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا ، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة " وفي الصحيح : " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره : أن مروان قال : اذهب يا رافع- لبوابه - إلى ابن عباس ، رضي الله عنه ، فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل - معذبا ، لنعذبن أجمعون ؟ فقالابن عباس : وما لكم وهذه ؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ) وتلا ابن عباس : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) الآية . وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكتموه وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه .
وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم ، والترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه ، كلهم من حديث عبد الملك بن جريج ، بنحوه ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص : أن [ ص: 182 ] مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس ، فذكره .
وقال البخاري : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا محمد بن جعفر ، حدثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) الآية .
وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم ، بنحوه وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم قال : كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال : يا أبا سعيد ، رأيت قول الله تعالى : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ) ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد : إن هذا ليس من ذاك ، إنما ذاك أن ناسا من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا ، فإن كان فيه نكبة فرحوا بتخلفهم ، وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح . فقال مروان : أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد : وهذا يعلم هذا ، فقال مروان : أكذلك يازيد ؟ قال : نعم ، صدق أبو سعيد . ثم قال أبو سعيد : وهذا يعلم ذاك - يعني رافع بن خديج - ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة . فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري : ألا تحمدني على شهادة لك ؟ فقال أبو سعيد : شهدت الحق . فقال زيد : أو لا تحمدني على ما شهدت الحق ؟
ثم رواه من حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن رافع بن خديج : أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم ، وهو أمير المدينة ، فقالمروان : يا رافع ، في أي شيء نزلت هذه ؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد ، رضي الله عنهم ، وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم ، فقال له ما ذكرناه ، ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء ، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، والله أعلم .
وقد روى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن الزهري ، عن محمد بن ثابت الأنصاري ، أن ثابت بن قيس الأنصاري قال : يا رسول الله ، والله لقد خشيت أن أكون [ ص: 183 ] هلكت . قال : " لم ؟ " قال : نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل ، وأجدني أحب الحمد . ونهى الله عن الخيلاء ، وأجدني أحب الجمال ، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وأنا امرؤ جهوري الصوت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا ترضى أن تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة ؟ " قال : بلى يا رسول الله . فعاش حميدا ، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب .
وقوله : ( فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ) يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد ، وبالياء على الإخبار عنهم ، أي : لا تحسبون أنهم ناجون من العذاب ، بل لا بد لهم منه ، ولهذا قال : ( ولهم عذاب أليم )
ثم قال : ( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ) أي : هو مالك كل شيء ، والقادر على كل شيء فلا يعجزه شيء ، فهابوه ولا تخالفوه ، واحذروا نقمته وغضبه ، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه ، القدير الذي لا أقدر منه .
58
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( 190 ) الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ( 191 ) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ( 192 ) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ( 193 ) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ( 194 ) )
قال الطبراني : حدثنا الحسن بن إسحاق التستري ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين . وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا . فدعا ربه ، فنزلت هذه الآية : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) فليتفكروا فيها [ ص: 184 ] . وهذا مشكل ، فإن هذه الآية مدنية . وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة . والله أعلم .
ومعنى الآية أنه يقول تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض ) أي : هذه في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار ، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار ، وحيوان ومعادن ومنافع ، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص ( واختلاف الليل والنهار ) أي : تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر ، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم ، ولهذا قال : ( لأولي الألباب ) أي العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها ، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله [ تعالى ] فيهم : ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [ يوسف : 105 ، 106 ] .
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) كما ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنبك أي : لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) أي : يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته ، وعلمه وحكمته ، واختياره ورحمته .
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرج من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ، أو لي فيه عبرة . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب " التفكر والاعتبار " .
وعن الحسن البصري أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة . وقال الفضيل : قال الحسن : الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك . وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك . وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : طوبى لمن كان قيله تذكرا ، وصمته تفكرا ، ونظره عبرا .
وقال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألهم للفكرة ، وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة .
وقال وهب بن منبه : ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم ، وما فهم امرؤ قط إلا علم ، وما علم امرؤ قط إلا عمل .
[ ص: 185 ] وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله ، عز وجل ، حسن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة .
وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه ، قد ذهب عقله .
وقال عبد الله بن المبارك : مر رجل براهب عند مقبرة ومزبلة ، فناداه فقال : يا راهب ، إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر ، كنز الرجال وكنز الأموال .
وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه ، يأتي الخربة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : ( كل شيء هالك إلا وجهه ) [ القصص : 88 ] .
وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تفكر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه .
وقال الحسن : يا ابن آدم ، كل في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلثه الآخر تتنفس للفكرة .
وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة .
وقال بشر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه .
وقال الحسن ، عن عامر بن عبد قيس قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ، أو نور الإيمان ، التفكر .
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : يا ابن آدم الضعيف ، اتق الله حيثما كنت ، وكن في الدنيا ضيفا ، واتخذ المساجد بيتا ، وعلم عينيك البكاء ، وجسدك الصبر ، وقلبك الفكر ، ولا تهتم برزق غد .
وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، أنه بكى يوما بين أصحابه ، فسئل عن ذلك ، فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر ، إن فيها مواعظ لمن ادكر .
وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحسين بن عبد الرحمن :
نزهة المؤمن الفكر لذة المؤمن العبر
نحمد الله وحده نحن كل على خطر
رب لاه وعمره قد تقضى وما شعر
رب عيش قد كان فو ق المنى مونق الزهر
في خرير من العيو ن وظل من الشجر
وسرور من النبا ت وطيب من الثمر
غيرته وأهله سرعة الدهر بالغير [ ص: 186 ]
نحمد الله وحده إن في ذا لمعتبر
إن في ذا لعبرة للبيب إن اعتبر
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته ، فقال : ( وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون . وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [ يوسف : 105 ، 106 ] ومدح عباده المؤمنين : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) قائلين ( ربنا ما خلقت هذا باطلا ) أي : ما خلقت هذا الخلق عبثا ، بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا ، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا : ( سبحانك ) أي : عن أن تخلق شيئا باطلا ( فقنا عذاب النار ) أي : يا من خلق الخلق بالحق والعدل ، يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم .
ثم قالوا : ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) أي : أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع ( وما للظالمين من أنصار ) أي : يوم القيامة لا مجير لهم منك ، ولا محيد لهم عما أردت بهم .
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان ) أي : داعيا يدعو إلى الإيمان ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ( أن آمنوا بربكم فآمنا ) أي يقول : (آمنوا بربكم فآمنا ) أي : فاستجبنا له واتبعناه ( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ) أي : بإيماننا واتباعنا نبيك فاغفر لنا ذنوبنا ، أي : استرها ( وكفر عنا سيئاتنا ) أي : فيما بيننا وبينك ( وتوفنا مع الأبرار ) أي : ألحقنا بالصالحين ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) قيل : معناه : على الإيمان برسلك . وقيل : معناه : على ألسنة رسلك . وهذا أظهر .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن محمد ، عن أبي عقال ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عسقلان أحد العروسين ، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين ألفا لا حساب عليهم ، ويبعث منها خمسين ألفا شهداء وفودا إلى الله ، وبها صفوف الشهداء ، رءوسهم مقطعة في أيديهم ، تثج أوداجهم دما ، يقولون : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ) فيقول : صدق عبدي ، اغسلوهم بنهر البيضة . فيخرجون منه نقاء بيضا ، فيسرحون في الجنة حيث شاءوا " .
وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ، ومنهم من يجعله موضوعا ، والله أعلم .
[ ص: 187 ] ( ولا تخزنا يوم القيامة ) أي : على رءوس الخلائق ( إنك لا تخلف الميعاد ) أي : لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك ، وهو القيام يوم القيامة بين يديك .
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سريج حدثنا المعتمر ، حدثنا الفضل بن عيسى ، حدثنا محمد بن المنكدر ، أن جابر بن عبد الله حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله ، عز وجل ، ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار " حديث غريب .
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده ، فقال البخاري ، رحمه الله :
حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن كريب عن ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة ، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) ثم قام فتوضأ واستن . فصلى إحدى عشرة ركعة . ثم أذن بلال فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح .
وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني ، عن ابن أبي مريم ، به ثم رواه البخاري من طرق عن مالك ، عن مخرمة بن سليمان ، عنكريب ، عن ابن عباس أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي خالته ، قال : فاضطجعت في عرض الوسادة ، واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل - أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل - استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران ، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي - قال ابن عباس : فقمت فصنعت مثل ما صنع ، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه - فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي ، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها فصلى ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ثم أوتر ، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن ، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم خرج فصلى الصبح .
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن مالك ، به ورواه مسلم أيضا وأبو داود من وجوه أخر ، عن مخرمة بن سليمان ، به .
[ ص: 188 ] " طريق أخرى " لهذا الحديث عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] .
قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي ، أخبرنا أبو يحيى بن أبي مسرة أنبأنا خلاد بن يحيى ، أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن المنهال بن عمرو ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن عبد الله بن عباس قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته . قال : فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الآخرة ، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره قام فمر بي ، فقال : " من هذا ؟ عبد الله ؟ " فقلت نعم . قال : " فمه ؟ " قلت : أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة . قال : " فالحق الحق " فلما أن دخل قال : " افرشن عبد الله ؟ " فأتى بوسادة من مسوح ، قال فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه ، ثم استوى على فراشه قاعدا ، قال : فرفع رأسه إلى السماء فقال : " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات ، ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها .
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث علي بن عبد الله بن عباس حديثا في ذلك أيضا .
طريق أخرى رواها ابن مردويه ، من حديث عاصم بن بهدلة ، عن بعض أصحابه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مضى ليل ، فنظر إلى السماء ، وتلا هذه الآية : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) إلى آخر السورة . ثم قال : " اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، ومن بين يدي نورا ، ومن خلفي نورا ، ومن فوقي نورا ، ومن تحتي نورا ، وأعظم لي نورا يوم القيامة " وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح ، من رواية كريب ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه . .
ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بما جاءكم موسى من الآيات ؟ قالوا : عصاه ويده البيضاء للناظرين . وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا . فدعا ربه ، عز وجل ، فنزلت : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) قال : " فليتفكروا فيها " لفظ ابن مردويه . [ ص: 189 ] وقد تقدم سياقالطبراني لهذا الحديث في أول الآية ، وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية ، والمشهور أنها مدنية ، ودليله الحديث الآخر ، قال ابن مردويه :
حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد بن علي الحراني ، حدثنا شجاع بن أشرس ، حدثنا حشرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم ، عنالكلبي - هو أبو جناب [ الكلبي ] - عن عطاء قال : انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة ، رضي الله عنها ، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب ، فقالت : يا عبيد ، ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال : قول الشاعر :
زر غبا تزدد حبا
فقال ابن عمر : ذرينا أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبكت وقالت : كل أمره كان عجبا ، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ، ثم قال : ذريني أتعبد لربي [ عز وجل ] قالت : فقلت : والله إني لأحب قربك ، وإني أحب أن تعبد لربك . فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي ، فبكى حتى بل لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى ، حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال : يا رسول الله ، ما يبكيك ؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر ، فقال : " ويحك يا بلال ، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل علي في هذه الليلة : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) " ثم قال : " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " .
وقد رواه عبد بن حميد ، عن جعفر بن عون ، عن أبي جناب الكلبي عن عطاء ، بأطول من هذا وأتم سياقا .
وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه ، عن عمران بن موسى ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن يحيى بن زكريا ، عن إبراهيم بن سويد النخعي ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء قال : دخلت أنا [ وعبد الله بن عمر ] وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه .
وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب " التفكر والاعتبار " عن شجاع بن أشرص ، به . ثم قال : حدثني الحسن بن عبد العزيز : سمعت سنيدا يذكر عن سفيان - هو الثوري - رفعه قال : من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيه ويله . يعد بأصابعه عشرا . قال الحسن بن عبد العزيز : فأخبرني [ ص: 190 ] عبيد بن السائب قال : قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن ؟ قال : يقرؤهن وهو يعقلهن .
قال ابن أبي الدنيا : وحدثني قاسم بن هاشم ، حدثنا علي بن عياش ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال : سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل ؟ فأطرق هنية ثم قال : يقرؤهن وهو يعقلهن .
[ حديث آخر فيه غرابة : قال أبو بكر بن مردويه : أنبأنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم البستي ح وقال : أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو قالا أنبأنا هشام بن عمار ، أنبأنا سليمان بن موسى الزهري ، أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي ، أنبأناسعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة . مظاهر بن أسلم ضعيف ] .
59
( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ( 195 ) )
يقول تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم ) أي : فأجابهم ربهم ، كما قال الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة ، رجل من آل أم سلمة ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله [ عز وجل ] ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) إلى آخر الآية . وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا .
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه .
وقد روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة قالت : آخر آية أنزلت هذه الآية : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) إلى آخرها . رواه ابن مردويه .
ومعنى الآية : أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا - مما تقدم ذكره - فاستجاب لهم ربهم - عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ) [ البقرة : 186 ] . [ ص: 191 ] وقوله : ( أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) هذا تفسير للإجابة ، أي قال لهم مجيبا لهم : أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يوفي كل عامل بقسط عمله ، من ذكر أو أنثى .
وقوله : ( بعضكم من بعض ) أي : جميعكم في ثوابي سواء ( فالذين هاجروا ) أي : تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران ، ( وأخرجوا من ديارهم ) أي : ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجئوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ، ولهذا قال : (وأوذوا في سبيلي ) أي : إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى : ( يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ) [ الممتحنة : 1 ] . وقال تعالى : ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) [ البروج : 8 ] .
وقوله : ( وقاتلوا وقتلوا ) وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله ، فيعقر جواده ، ويعفر وجهه بدمه وترابه ، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، أيكفر الله عني خطاياي ؟ قال : " نعم " ثم قال : " كيف قلت ؟ " : فأعاد عليه ما قال ، فقال : " نعم ، إلا الدين ، قاله لي جبريل آنفا " .
ولهذا قال تعالى : ( لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) أي : تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب ، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
وقوله : ( ثوابا من عند الله ) أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم ، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا ، كما قال الشاعر :
إن يعذب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبالي
وقوله : ( والله عنده حسن الثواب ) أي : عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا .
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن دحيم بن إبراهيم : حدثنا الوليد بن مسلم ، أخبرني حريز بن عثمان : أن شداد بن أوس كان يقول : يا أيها الناس ، لا تتهموا الله في قضائه ، فإنه لا يبغي على مؤمن ، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يحب فليحمد الله ، وإذا نزل به شيء مما يكره فليصبر وليحتسب ، فإن الله عنده حسن الثواب .
60
[ ص: 192 ] ( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ( 196 ) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ( 197 ) لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ( 198 ) )
يقول تعالى : لا تنظروا إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه ، من النعمة والغبطة والسرور ، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ، ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة ، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا ، وجميع ما هم فيه ( متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد )
وهذه الآية كقوله تعالى : ( ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ) [ غافر : 4 ] ، وقال تعالى : ( إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ) [ يونس : 69 ، 70 ] ، وقال تعالى : (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ ) [ لقمان : 24 ] ، وقال تعالى : ( فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ) [ الطارق : 17 ] ، أي : قليلا وقال تعالى : ( أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ) [ القصص : 61 ] .
وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر مآلهم إلى النار قال بعده : " ( لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا ) أي : ضيافة من عند الله ( وما عند الله خير للأبرار )
وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن نصر أخبرنا أبو طاهر سهل بن عبد الله ، أنبأنا هشام بن عمار ، أنبأنا سعيد بن يحيى ، أنبأنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما سموا الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حق " .
كذا رواه ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن جناب ، حدثنا عيسى بن يونس ،عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حق ، وهذا أشبه والله أعلم .
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدستوائي ، عن رجل ، عن الحسن قال : الأبرار الذين لا يؤذون الذر .
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن خيثمة ، عن الأسود قال : قال عبد الله - يعني ابن مسعود- : ما من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها ، لئن كان برا لقد قال الله : ( وما عند الله خير للأبرار ) [ ص: 193 ] وكذا رواه عبد الرزاق ،عن الأعمش ، عن الثوري ، به ، وقرأ : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) [ آل عمران : 178 ] .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن فرج بن فضالة ، عن لقمان ، عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : ( وما عند الله خير للأبرار ) ويقول : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )
61
( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ( 199 ) يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ( 200 ) )
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان ، وبما أنزل على محمد ، مع ما هم يؤمنون به من الكتب المتقدمة ، وأنهم خاشعون لله ، أي : مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه ، ( لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ) أي : لا يكتمون بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته ، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم ، سواء كانوا هودا أو نصارى . وقد قال تعالى في سورة القصص : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون . وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين . أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ) الآية [ القصص : 52 - 54 ] ، وقال تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به) الآية [ البقرة : 121 ] ، وقال : ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : 159 ] ، وقال تعالى : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) [ آل عمران : 113 ] ، وقال تعالى : ( قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا . ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا . ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ) [ الإسراء : 107 - 109 ] ، وهذه الصفات توجد في اليهود ، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس ، وأما النصارى فكثير منهم مهتدون وينقادون للحق ، كما قال تعالى : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى [ ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون . وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين . وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين . ] فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ) الآية [ المائدة : 82 - 85 ] ، وهكذا قال هاهنا : ( أولئك لهم أجرهم عند ربهم [ إن الله سريع الحساب ] ) الآية . [ ص: 194 ] وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب ،رضي الله عنه ، لما قرأ سورة ( كهيعص ) بحضرة النجاشي ملك الحبشة ، وعنده البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه ، حتى أخضبوا لحاهم .
وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وقال : " إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه " . فخرج [ بهم ] إلى الصحراء ، فصفهم ، وصلى عليه .
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : لما توفي النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استغفروا لأخيكم . فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة . فنزلت : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) الآية .
ورواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم . ثم رواه ابن مردويه [ أيضا ] من طرق عن حميد ، عن أنس بن مالك نحو ما تقدم .
ورواه أيضا ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن جابر قال : قال [ لنا ] رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي : " إن أخاكم أصحمة قد مات " . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر عليه أربعا ، فقال المنافقون : يصلي على علج مات بأرض الحبشة : فأنزل الله [ عز وجل ] ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله [ وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب ] ) .
وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو العباس السياري بمرو ، حدثنا عبد الله بن علي الغزال ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا ابن المبارك ، أنبأنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : نزل بالنجاشي عدو من أرضهم ، فجاءه المهاجرون فقالوا : نحب أن نخرج إليهم حتى نقاتل معك ، وترى جرأتنا ، ونجزيك بما صنعت بنا . فقال : لا دواء [ ص: 195 ] بنصرة الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس . قال : وفيه نزلت : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) الآية ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن عمرو الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور .
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وإن من أهل الكتاب ) يعني مسلمة أهل الكتاب .
وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ) الآية . قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوه وعرفوا الإسلام ، فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم وبالذي اتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم . رواهما ابن أبي حاتم .
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين " فذكر منهم : " ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي " .
وقوله : ( لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ) أي : لا يكتمون ما بأيديهم من العلم ، كما فعله الطائفة المرذولة منهم بل يبذلون ذلك مجانا ، ولهذا قال : ( أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب )
قال مجاهد : ( سريع الحساب ) يعني : سريع الإحصاء . رواه ابن أبي حاتم وغيره .
وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) قال الحسن البصري ، رحمه الله : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم ، وهو الإسلام ، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء ، حتى يموتوا مسلمين ، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم . وكذلك قال غير واحد من علماء السلف .
وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات . وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة ، قاله ابن عباس وسهل بن حنيف ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغيرهم .
وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي ، من حديث مالك بن أنس ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحرقة ،عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا [ ص: 196 ] أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " .
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي ، أنبأنا ابن أبي كريمة ، عن محمد بن يزيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل علي أبو هريرة يوما فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) ؟ قلت : لا . قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، يصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت : ( اصبروا ) أي : على الصلوات الخمس ( وصابروا ) [ على ] أنفسكم وهواكم ( ورابطوا ) في مساجدكم ( واتقوا الله ) فيما عليكم ( لعلكم تفلحون ) .
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت ، عن داود بن صالح ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - بنحوه .
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط " .
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا موسى بن سهل الرملي ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا محمد بن مهاجر ، حدثني يحيى بن يزيد ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن شرحبيل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب ؟ " قلنا : بلى يا رسول الله . قال : " إسباغ الوضوء في أماكنها ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط " .
وقال ابن مردويه : حدثني محمد بن علي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي ، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي ، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن ، أنبأنا الوازع بن نافع ، عن أبي سلمة [ ص: 197 ] بن عبد الرحمن ، عن أبي أيوب ، رضي الله عنه ، قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟ " قلنا : نعم ، يا رسول الله ، وما هو ؟ قال : " إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة " .
قال : " وهو قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) فذلك هو الرباط في المساجد " وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدا .
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ، حدثني داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية ( اصبروا وصابروا ورابطوا ) ؟ قال : قلت : لا . قال : إنه - يا ابن أخي - لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة . رواه ابن جرير ، وقد تقدم سياق ابن مردويه ، وأنه من كلام أبي هريرة ، فالله أعلم .
وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا مرابطة الغزو في نحور العدو ، وحفظ ثغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين ، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك ، وذكر كثرة الثواب فيه ، فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها " .
حديث آخر : روى مسلم ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، أخبرني أبو هانئ الخولاني ، أن عمرو بن مالك الجنبي أخبره : أنه سمع فضالة بن عبيد يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميت يختم على عمله ، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر " .
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا .
حديث آخر : وروى الإمام أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق وحسن بن موسى وأبي سعيد [ ص: 198 ] [ وعبد الله بن يزيد ] قالوا : حدثنا ابن لهيعة حدثنا مشرح بن هاعان ، سمعت عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل ميت يختم له على عمله ، إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن من الفتان " .
وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده ، عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد ، به إلى قوله : " حتى يبعث " دون ذكر " الفتان " . وابن لهيعة إذا صرح بالتحديث فهو حسن ، ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد .
حديث آخر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني الليث ، عن زهرة بن معبد عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من مات مرابطا في سبيل الله ، أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه ، وأمن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفزع " .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا موسى ، أنبأنا ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات مرابطا وقي فتنة القبر ، وأمن من الفزع الأكبر ، وغدا عليه وريح برزقه من الجنة ، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن محمد بن عمرو بن حلحلة الدؤلي ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أم الدرداء ترفع الحديث قالت من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام ، أجزأت عنه رباط سنة " .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا كهمس ، حدثنا مصعب بن ثابت ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان ، رضي الله عنه - وهو يخطب على منبره - : إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها " .
وهكذا رواه أحمد أيضا عن روح عن كهمس عن مصعب بن ثابت ، عن عثمان . وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمار ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن مصعب بن ثابت ، [ ص: 199 ] عن عبد الله بن الزبير قال : خطب عثمان بن عفان الناس فقال : يا أيها الناس ، إني سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضن بكم وبصحابتكم ، فليختر مختار لنفسه أو ليدع . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة صيامها وقيامها " .
طريق أخرى عن عثمان [ رضي الله عنه ] قال الترمذي : حدثنا الحسن بن علي الخلال ، حدثنا هشام بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثناأبو عقيل زهرة بن معبد ، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال : سمعت عثمان - وهو على المنبر - يقول : إني كتمتكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ، ثم بدا لي أن أحدثكموه ، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " .
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، قال محمد - يعني البخاري - : أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان وذكر غير الترمذيأن اسمه الحارث ، فالله أعلم وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وعنده زيادة في آخره فقال - يعني عثمان - : فليرابط امرؤ كيف شاء ، هل بلغت ؟ قالوا : نعم . قال : اللهم اشهد .
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، حدثنا محمد بن المنكدر قال : مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط ،وهو في مرابط له ، وقد شق عليه وعلى أصحابه فقال : أفلا أحدثك - يا ابن السمط - بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى . قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال : خير - من صيام شهر وقيامه ، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ، ونما له عمله إلى يوم القيامة " .
تفرد به الترمذي من هذا الوجه ، وقال : هذا حديث حسن . وفي بعض النسخ زيادة : وليس إسناده بمتصل ، وابن المنكدر لم يدرك سلمان .
قلت : الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة ، كلاهما عنشرحبيل بن السمط - وله صحبة - عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن الفتان " وقد تقدم سياق مسلم بمفرده .
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة ، حدثنا محمد بن يعلى [ ص: 200 ] السلمي ، حدثنا عمر بن صبيح ، عن عبد الرحمن بن عمرو ، عن مكحول ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لرباط يوم في سبيل الله ، من وراء عورة المسلمين محتسبا ، من غير شهر رمضان ، أعظم أجرا من عبادة مائة سنة ، صيامها وقيامها . ورباط يوم في سبيل الله ، من وراء عورة المسلمين محتسبا ، من شهر رمضان ، أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال - : من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها ، فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما ، لم تكتب عليه سيئة ألف سنة ، وتكتب له الحسنات ، ويجرى له أجر الرباط إلى يوم القيامة " .
هذا حديث غريب ، بل منكر من هذا الوجه ، وعمر بن صبيح متهم .
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا عيسى بن يونس الرملي ، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ، عن سعيد بن خالد بن أبي طويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة : السنة ثلاثمائة وستون يوما ، واليوم كألف سنة " .
وهذا حديث غريب أيضا وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه . وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به . وقال الحاكم : روى عن أنس أحاديث موضوعة .
حديث آخر : قال ابن ماجه : حدثنا محمد بن الصباح ، أنبأنا عبد العزيز بن محمد ، عن صالح بن محمد بن زائدة ، عن عمر بن عبد العزيز ، عنعقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله حارس الحرس " .
فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر ، فإنه لم يدركه ، والله أعلم .
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أبو توبة ، حدثنا معاوية - يعني ابن سلام عن زيد - يعني ابن سلام - أنه سمع أبا سلام قال : حدثني السلولي : أنه حدثه سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فأطنبوا السير حتى كانت عشية ، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله ، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " تلك غنيمة المسلمين غدا إن شاء الله [ تعالى ] " . ثم قال : " من يحرسنا الليلة ؟ " قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله . فقال " فاركب " فركب فرسا له ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له [ ص: 201 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يغرن من قبلك الليلة " فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : " هل أحسستم فارسكم ؟ " قال رجل : يا رسول الله ، ما أحسسناه ، فثوب بالصلاة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى صلاته قال : " أبشروا فقد جاءكم فارسكم " فجعلنا ننظر إلى خلال الشجر في الشعب ، فإذا هو قد جاء ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما ، فنظرت فلم أر أحدا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل نزلت الليلة ؟ " قال : لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة ، فقال له : " أوجبت ، فلا عليك ألا تعمل بعدها " .
ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني ، عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب : حدثنا عبد الرحمن بن شريح ، سمعت محمد بن شمير الرعيني يقول : سمعت أبا عامر التجيبي . قال الإمام أحمد : وقال غير زيد : أبا علي الجنبي يقول : سمعت أبا ريحانة يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه ، فأصابنا برد شديد ، حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة ، يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة - يعني الترس - فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى : " من يحرسنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟ " فقال رجل منالأنصار : أنا يا رسول الله . فقال : " ادن " فدنا ، فقال : " من أنت ؟ " فتسمى له الأنصاري ، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء ، فأكثر منه . فقال أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت أنا رجل آخر . فقال : " ادن " . فدنوت . فقال : من أنت ؟ قال : فقلت : أنا أبو ريحانة . فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ، ثم قال : " حرمت النار على عين دمعت - أو بكت - من خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله " .
وروى النسائي منه : " حرمت النار . . . " إلى آخره عن عصمة بن الفضل ، عن زيد بن الحباب به ، وعن الحارث بن مسكين ، عن ابن وهب ،عن عبد الرحمن بن شريح ، به ، وأتم ، وقال في الروايتين : عن أبي علي الجنبي .
حديث آخر : قال الترمذي : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا بشر بن عمر ، حدثنا شعيب بن رزيق أبو شيبة ، حدثنا عطاء الخراساني ، عنعطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله " . [ ص: 202 ] ثم قال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق قال : وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة قلت : وقد تقدما ، ولله الحمد .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان ، حدثنا رشدين ، عن زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجرة سلطان ، لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم ، فإن الله يقول : ( وإن منكم إلا واردها ) [ مريم : 71 ] .
تفرد به أحمد رحمه الله [ تعالى ] .
حديث آخر : روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش ، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع ".
فهذا ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ، ولله الحمد على جزيل الإنعام ، على تعاقب الأعوام والأيام .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا مطرف بن عبد الله المدني حدثنا مالك ، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه : ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنشدها [ ص: 203 ] معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية : سنة سبع وسبعين ومائة :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
وهج السنابك والغبار الأطيب ولقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي وغبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ، ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا . وأملى علي الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رجلا قال : يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال : " هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر وتصوم فلا تفطر ؟ " فقال : يا رسول الله ، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات " .
وقوله : ( واتقوا الله ) أي : في جميع أموركم وأحوالكم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ [ بن جبل ] [ رضي الله عنه ] حين بعثه إلىاليمن : " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " .
( لعلكم تفلحون ) أي : في الدنيا والآخرة .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه كان يقول في قول الله عز وجل : ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ) واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني .
آخر تفسير سورة آل عمران ، ولله الحمد والمنة ، نسأله الموت على الكتاب والسنة . [ ص: 204 ] [ ص: 205 ]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق